في وداع رَفَحْ...!
- hala alnaji
- Apr 14
- 3 min read
أودّعها لألاقيها ... فلا عودة تمر دون رفح!

لا أعرف كيف يصير وداع المدن؛ وأي طقوس تلك التي قد نمارسها لفقد مدينة بأكملها أو مغادرتها قسرا!
لا أعرف كيف أقوم بتأطير هذا الغياب.!
هل أرش الملح في الهواء لاهثة خلف مدينة جردوها من أهلها قسرا؟
لقد نثر أحبتي رماد أشلائهم فوق تراب رفح مستحضرين كل طقوس الغياب كي يحافظوا عليها قطعةً يابسة في قصتهم البائسة فلم يتأت لهم إلا الموت والفقد…
"رفح" مسقط رأس كل مسافر من غزة؛ لا يمكن أن تغادر قطاع غزة دون أن تقف على طللها لتودع ما فاتك من الطريق.
هي واحةُ العابرين بموقعها بين البحر والصحراء. تظل عالقةً في سجل كل رحلة، عند كل انتصارٍ وكل هزيمه، عند كل فراقٍ ولقاء..
بالنسبة لشمالية المنشأ مثلي؛ فرفح بعيدةٌ إنها في نهاية الطريقِ من الوطن المتاح؛
دخلتُها أول مرة في رحلةٍ مدرسية في عقدي الأول؛
وهناك في وداعها جاورنا البحر قليلا؛
مارسنا إغراء الموج كي يتقدم أكثر! لكن طبعُهُ الجَزِر؛ يحول دون مدّه المؤثر فينا...
تناولنا وجبة غداء مشتركة ونحن نشاهد احتضار الشمس وقد سبقناها غربا؛ فهناك يصير الغروب الأخير للشمس في وطني... نعفنا رمالها العالقة في ملابسنا وانطلقنا في رحلة العودة شمالا..
في المرة الثانية كنت في عقدي الثاني في رحلة جامعية لزيارة مزارع السمك ومعبر رفح البري وأطلال مطار غزة... كانت رفح قد بدأت تتشكل في وعيي الشخصي كمدينة أقف بها في موقعية الحافة، على عتبة الرحيل وعتبة اللقاء في آنٍ واحد؛ كانت تحمل رمزية الحصار في معبرها المغلق؛ ورمزية الحرية الماكرة في أنفاقها الخفيّة ومعبرها البري ومطارها الدولي. شكلت هذه المدينة حال المؤقت الدائم عند كل لحظة... مع ذلك؛ كنّا نسير إلى رفح ونعرف أن هناك يصير لديك أجنحه وتغادر سجنك المحشو بالذل والممتد في التاريخ لسنوات... تسري بك راحةٌ لا تعرف مستقاها ولا تدري كيف يصير سريانها إليك في مكانٍ أنت فيه على الحافة!
مع هذا التقسيم اليتيم لقطاع غزة؛ صار بقعة جغرافية بحواف مذلة!
كل حافة منها تمارس سطوتها على سجيّتها؛
ورفح هي الحافة الجنوبية لقطاع غزة؛ حدّ آسيا بأفريقيا وحدّ فلسطين بمصر!
وُلدت مواقعيتها في اتفاقيةِ سلامٍ لكنها لم تعرف يوما سلاماً!
في موقعها كمدينة حدودية صارت رفح حافة الأراضي السيادية. والحافة على الرغم من رشاقة وخفة وضيق المعنى إلا أنها كمساحة تمثل هياكل قوة سياسية قد تصير معنىً للفصل، وللتقسيم، وللضعف، وللهامشية، وللطمس، والتمييز.
وقد تصبح هذه الهياكل عاطفيةً أكثر إذا ما تناولها السياق كهياكل إذلالٍ، وموتٍ، وإرهاقٍ، واغتراب!
فرفح لم تعد تمر بالخاطرة دون أن يقضّ سهوك صورة طابور السفر المذل أو عشرات الموتى ممن قضوا في نفق منها يحاولون وصول النور في نهايته... لا تمر دون أن ينفجر في الذاكرة مشهد الوداع الأخير لمنفيٍ من الوطن ومهجّرٍ منها ومسافرٍ عنها... لا تمر دون أن تتسع حدقة عينيك في ذكرى لقاءٍ لحبيب أو قريب!
رفح؛ وهي تستريح على الحدود كانت تتشكل هيئتها كمدينة عنيدة فريدة الحضور. كانت تعلن جدارتها بسلوكٍ اجتماعيٍ استثنائي يثبت فردانتيها..
ففي أنوثة الاسم تجد الهشاشة والقوة في الوقت ذاته... مدينةٌ استثمرت في جوفها وبحرها وحافتها، فكانت الخاصرة العنيدة لغزة التي تم بترها ببشاعة لكنها ستظل حاضرة في المخيلة العامة.
مسافتها البعيدة لم تمنع اشتباكي الحقيقي معها؛ لقد كان تعلّقي بهذه المدينة عاطفيا بالدرجة الأولى! فأكثر الصداقات ديمومة تستمد جذورها من تراب تلك المدينة، وأكثر النقلات المهنية نوعية حدثت في رحاها، وحتى حين طرقت باب الحب لأول مرة كان رفحياً لكن للنصيب قول آخر!
ماذا يعني أن تكون رفحيّاً؟
يعني أن تحمل جيناً تكيُفياً يجعل من صدرك مكانا آمنا يتسع لكل طيفٍ ولون.. فالخبرة المستقاة ومجاريها بين الداخل والخارج مصطفاةً لك وحدك! أنت من تحمل عقدة المتاهة؛ اذ يبدأ عندك المسير إلى الوطن والمسير إلى خارجه!
يعني أن تكون جريئا مدفوعا للمخاطرة؛ فتجاوز الحد مع قربك الأزلي منه مهارةٌ قد فُطمت عليها!
يعني أن تكون في اشتباكٍ دائم مع فكرة الحد؛ ليس مكانياً وحسب، بل اجتماعيا وثقافيا وأدبياً!
يعني أن تحمل عبء الطريق الطويل إلى وسط المدينة كي تقاوم انفصال الثقافة وانفصال الجسد عنك!
يعني أن تحفر في جوف بيتك وتعبر حدود بحرك وتفخخ ميركافا إسرائيلية في أرضك كي تطلب الحرية!
يعني أن تفتح بيتك وملكك للنازح من وطنك فتصير مخيّما للاجئين!
أتساءل الآن أي عودة تلك إلى الوطن دون المرور برفح؟
🥲💔